لا يعتبر مفهوم الحضارة اليوم مفهوماً حديثاً، إنّما هو مفهومٌ ضاربٌ في القدم منذُ تاريخِ وجودِ الإنسان على هذه الأرض؛ إذ لا حضارة بلا إنسان، ولا إنسانَ من غير تاريخ، ولا وجود لحضارة لا تنتمي لتاريخ؛ حيثُ إنّ الحضارة جزءٌ من التّاريخ، ولكلِّ حضارةٍ تاريخها المُحدد، ولكلّ إنسانٍ حضارته. كما تعتبر الحضارة الوجهُ للآخر للإنسان؛ وبها يظهرُ مقدار قوّته، وضعفه، وتقدّمه، فما هي الحضارة؟ وكيف نشأت؟وما الفرق بينها وبين الثقافة؟  وما النّظريات التي وُضعت لتفسير نشوئها؟ 

تعريف الحضارة

تعرف الحضارة بالعديد من التعريفات من قِبل علماء الأنثروبولوجيا، فقال رالف بدنجتون (بالإنجليزية:Raiph Piddington) إنّ حضارة أيّ شعبٍ ما هي إلا حزمةُ أدواتٍ فكريّة وماديّة تُمكّن هذا الشعب من قضاء حاجاته الاجتماعية والحيوية بإشباع وتُمكّنه كذلك من أن يتكيّف في بيئته بشكلٍ مناسب كما عرَّف إدوارد تايلور (بالإنجليزية:Edward Tylor) الحضارة بأنّها: الكلُّ المركب الذي يجمع بداخله جميع المعتقدات،  والقوانين والقيم، والتقاليد، 

نظرية البيئة

اوضحت هذه النّظرية أهميّة العوامل البيئية في نشوء الحضارات وتشكُّلها، وقد خرجت هذه النظرية للعالم في القرن ال5 قبل الميلاد، وقد تحدّث فيها عديد من مفكري اليونان حيثُ قالوا بأثرِ المكانِ، والماء، والجوّ على الإنسان في تفكيره وطبيعة خلقه. كما توضح هذه النّظرية بعضاً من الشّروط الأساسية لقيام الحضارات ونموها، وتطوّرها، أو انحطاطها، ومنها: وجود المطر، وطبيعة الترّبة من حيث صلاحيتها للزراعة، وارتفاع أو انخفاض درجات الحرارة، وطبيعة الموقع الجغرافيّ.

نظريّة ابن خلدون

قدّم ابن خلدون تحليلاً خاصاً به في نشوء الحضارات، وتطرّق لأثرِ البيئة الواضحِ في الصفات البيولوجية للإنسان، مما يُقرّر أثرها على عاداته، وعقله وسلوكاته، وقراراته، حيثُ قال بأنّ للمناخِ دوراً مهمّاً وأساسيا في الأمر؛ فإن كان المُناخ في منطقة ما حاراً فستتولّد أفكارٌ، وعادات، وتقاليد ذات طبيعة صلبة وحارّة، أما إن كان مُعتدلاً مثلاً فسينتجُ عنه أفكار وتقاليد معتدلة، وهكذا. كما وصف ابن خلدون الإنسان بأنه كائن مدني بطبعه، ودعا إلى أهمية علم الاجتماع وطبيعة العلاقات بين البشر التي تؤدي لنشوء الأنظمة التي تحكم المجتمعات.

نظريّة فيكو

يُقرُّ الفيلسوف الإيطالي جان باتيستا فيكو ( بالإنجليزية: Giovanni Battista Vico) وجوبَ وجودِ قوانينَ معيّنة وموحّدة تساعد في تشكيل الأمم والشّعوب، ويشعرُ بهذه القوانين طبقةٌ من الناس أو طبقةٌ من أمة أو شعب، دونَ أنْ يكونَ أحدهم على علمٍ بالآخر. ولا تأتي القوانينُ هذه عن طريق العقل، إنّما تأتي من "الحسن المُشترك" إلى "الحُكم دون تفكير". كما يقولُ فيكو إنّه لا وجودَ لعُقلاء أو فلاسفة قبل أن توجدَ الحضارة والدّولة، مُعارضاً بقوله هذا نظرية الفلاسفة العقليين الذين يقولون إنّ المجتمع جاءَ به وصنعه العُقلاء.